حمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فأرى براعة الاستهلال، الّتي يجب أن أفتتِح بها هذا المقال، كلام الإمام الأريب، والعلاّمة الأديب، الشّيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، الّذي قال في " آثاره " (1/72):
" إنَّ شبابنا المتعلِّم كسولٌ عن المطالعة، والمطالعةُ نصفُ العلم أو ثلثاه، فأوصيكم يا شبابَ الخير بإدمانِ المطالعة والإكباب عليها، ولْتَكُنْ مطالعتُكم بالنّظامِ حرصًا على الوقتِ أن يضيع في غير طائل، وإذا كنتم تريدون الكمالَ فهذه إحدى سبلِ الكمال "اهـ.
فما الّذي كان سيقوله الشّيخ رحمه الله لو رأى حال أمّتنا هذه الأعوام، وغربة المطالعة بين أبناء العُرْبِ والإسلام ؟
أيّ عبرةٍ تسكبُها عيناه لو اطّلع على تقارير أصحاب الدّراسات الميدانيّة هذه الأيّام ؟!
فقد
ذكر التّقريرُ العربيّ الأوّل للتّنمية الثّقافية لعام 2007 م الّذي صدر
عن " مؤسّسة الفكر العربيّ ": أنّ هناك كتابًا يصدر لكلّ 12 ألف مواطن
عربيّ !
وفي المقابل فإنّ هناك كتاباً لكلّ 500 إنكليزي، ولكلّ 900 ألمانيّ !
وهذا يعنِي أنّ معدَّل القراءة في العالم العربيّ لا يتجاوز 4 % !
وأوردت جريدةُ " القبس " الكويتية بتاريخ 11 مارس 2007 م: أن معدَّل القراءة للفرد في العالم العربي في العام الواحد يبلغ 6 دقائق، مقابل 200 ساعة في أوربا وأمريكا !
ونشرت
صحيفةُ " الرّأي " الأردنيّة دراسةً عن معدَّلات القراءة في الوطن العربي،
كشفت أنّ القارئ العربيّ يقرأ في كلّ عام نحوَ ربع صفحة، في حين معدَّل
قراءة الأمريكي 11 كتابًا، والبريطاني 7 كتب في العام !
فلا جرم أنّ الأمّة صارت في ذيل القافلة البشريّة {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} .. حتّى قال أحدُ زعماء الكِيان الصِّهْيوني ساخرا من العرب: "العربُ لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون !".
وقد سُئل فولتير عمّن سيقود الجنس البشريّ ؟ فأجاب:" الّذين يعرفون كيف يقرؤون ". وصدق من قال: أمّة ( اِقْرَأْ ) لا تقرأ.
وإن عثرْتَ على قارئ أو كاتب، فلك أن تسأل ما يقرأ ؟ وما يكتب ؟
وما أعظمَ كلمةَ شيخ العربيّة العلاّمة محمود شاكر رحمه الله في
" الطّريق إلى ثقافتنا " وهو يتحدّث عن التّفريغ الثّقافي الّذي أصاب
أمّتنا، وكيف وصل حال المسلمين إلى جيل مفرَّغ من كلّ أصول ثقافة أمّته،
فقال:
" فالأديبُ مصوِّرٌ بقلم غيره، والفيلسوفُ مفكِّرٌ
بعقل سواه، والمؤرِّخُ ناقدٌ للأحداث بنظرٍ غريبٍ عن تاريخه، والفنَّانُ
نابضٌ قلبُه بنبضٍ أجنبيٍّ عن تُراث فنِّه "اهـ.
الأسباب:
إنّ
عزوفَ الشّباب عن القراءة منذر خطر كبير، وشرّ مستطير، بدأ الجميع يُبصرُ
مظاهرَه في حاضرنا، وسيتعمَّق أثره أكثر في مستقبلنا؛ فلا بدّ من معرفة
أسباب هذا الانحطاط؛ لأنّ أوّل قواعد الشّفاء معرفة الدّاء قبل الدّواء،
ويكفينا أن نضع أيدِيَنا على بعضها:
1-
غرقُ الإعلام العربيّ بهذا الكمِّ الوافر من المواد الإعلامية الهابطة،
والّذي يُعدّ مخطّطا لتفريغ العقل الإسلاميّ العربيّ من الثّقافة البنّاءة.
2- الكسل والزّهد في المطالعة:
فقد
نشأ - للأسف - جيلٌ غيرُ محبٍّ للقراءة، ولو تأمّلت حاله لألْفَيتَه
ضحيّةَ تربيةٍ هشَّة، لم يُشعِرْه والِداه في طفولته بمنزلة الكتاب وأهمّية
المطالعة، فضلاً أن يهيّئا له الوَسَطَ لذلك.
3- استيراد المناهج الدّراسيّة الأجنبيّة ! وعدم أهليّة القائمين على المنظومة التّربويّة !
وقد بُحّت أصواتُ المصلحين، ونفدت قُوى العاملين، تدعو إلى ضرورة الرّجوع إلى المنهجيّة الصّحيحة في تعليم النّشء، وأيّ دليل على فشلِهم أكبر وأظهر من تفاقم ظاهرة التسرّب المدرسيّ ؟! التسرّب لا من المرحلة الثّانويّة والمتوسّطة، ولكن من المرحلة الابتدائيّة !
ولكن .. قد عَمَت الأبصار، أو خلت من أهلها الدّار، ويصدق في أكثرهم قول الخنساء رضي الله عنها:
قذًى بعينِك، أمْ بالعين عُوار *** أم أقْفَرَتْ إذ خلت من أهلها الدّار ؟
4- الاكتفاء بالأجهزة الإلكترونيّة الحديثة:
فإنّ شبابنا اليوم قد جعلوا الكتاب دفينا، واتّخذوا من الحاسوب خَدينًا، فيقضون أمام شاشاته السّاعاتِ الطِّوال، ويهون عليهم كلّ نفيس وغال.
وليتهم صرفوا هذه الأجهزة في مطالعة المواقع الهادفة النّافعة، والكتب الطيّبة الجامعة، ولكنّهم قوم غلب عليهم حبّ الاستطلاع على المطالعة، فاستبدلوا ال(book) بال(Facebook)، وغذاء القلوب باليوتيوب !
وقد
بيّنَتْ الإحصاءات أنّ أكثر المواقع إقبالاً من فئات الشّباب في عالمنا
العربيّ هي مواقع الأفلام الأجنبيّة، والموسيقى، والمواقع الرّياضية،
والمواقع الإخباريّة، و- للأسف – الإباحيّة !
5- عُزُوفُ أكثر المسلمين عن طلب العلم الشرعيِّ:
فإنّ
أهمّ ثمرات الاشتغال بالعلم هو استغلال الوقت في القراءة والمطالعة. ويومَ
كان المسلمون يتصفّحون كتب التّفسير، وأحاديث البشير النّذير صلّى الله عليه وسلّم، كانت في أعلى القِمم، تقود أقوى الأمم.
طريق الإصلاح:
فما أنزل الله من
داء إلاّ وأنزل له الدّواء، ولكن لا بدّ من تضافرَ جهود المربِّين، سواء
في البيت، أو في المدرسة، أو في المسجد، أو في النّوادي، الجميع عليه أن
يشعُر بخطر ما عليه شباب المسلمين من العزوف عن المطالعة، والإعراض عن القراءة.
ثمّ إنّ من وسائل الإصلاح:
1- تربية النّشء على القراءة: وذلك منذ الصِّغر، ومن شاب على شيء شبّ عليه.
2- التّرغيب في المطالعة بالقدوة: وهذا من أنجع أساليب التّربية:
وما عليك إلاّ أن تُلقِي نظرة على الأُسَر
الّتي يهتمُّ فيها الوالدان بالقراءة والمطالعة، فإنّك ستجد الأولادَ فيها
- غالبًا - قد غدت القراءة جُزءًا ثابتًا من نشاطهم اليوميّ.
وقد بيّن الدّارسون أنّ من أسباب الجفاء القائم بين أبنائنا والكتاب: عزوف الوالدين عن المطالعة؛ لأنّ الأطفال إنّما يُعظّمون ما يُعظّمه الآباء والأمّهات، والعكس بالعكس.
3- توفير القصص الهادفة الجميلة الشّكل للطفل من صِغرِه.
4- قراءة القصص للأبناء، خصوصًا قُبيل النّوم.
5- اصطحاب الأطفال أحيانا إلى المكتبة ومعارض الكتب، وترك المجال لهم في اختيار ما يُناسب أعمارَهم منها.
6- إنشاء مكتبة الأسرة في البيت، الّتي تشتمل على الكتب النّافعة، والقصّة الهادفة.
7- تعويد الطّفل على ادّخارَ جزءٍ من مصروفه لشراء الكتب النّافعة.
8- تخصيص ساعةٍ للمطالعة يوميّا، يجلس فيها الجميع لمطالعة كتاب معيّن.
9- إنشاء نادي المطالعة (Club de lecture): وذلك:
أ) إمّا أن يُنشِئه أفراد الأسرة فيما بينهم، فيُكلَّف الجميع بقراءة كتاب معيّن، على أن يجتمعوا بعد ذلك لمدارسة فحواه في جلسة أسريّة مباركة.
ب) أو يُمكّن ولدَه من إنشائه مع الصّالحين من رفقائه.
10- على الدّعاة
والمربّين أن يقوموا ببيان ضرورة العلم والمطالعة، بدءاً بدراسة
الوَحْيَيْن: الكتاب والسنَّة الصّحيحة، ثمّ كتب أهل العلم المشهود لهم
بالقدم الرّاسخة في العلم.
وعليهم إجراء مسابقات علميّة، وخاصّة تلك الّتي تدعو إلى تلخيص بعض الكتب النّافعة.
ومن الأمور الّتي تفطّن إليها كثير من الدّول: إقامة مسابقة " القارئ النَّهِم "، يفوز بها أكثرُ الشّباب قراءة في مدَّة زمنيّة محدّدة.
وعلى ولاة الأمور أن يقوموا قومةً لا رقود بعدها ولا ركود، يتمّ من خلالها إصلاح ما فسد، ورأب ما انصدع في المنظومة التّربويّة الّتي لا العلمَ نشرت، ولا الفسادَ كسرت.
وأختم هذا المقال، بهذه الدّرر المأثورة عن العلماء المتقدّمين والمتأخّرين، لعلّ الكلمة الحيّة تصبّ من روحها في قلب القارئ:
- يقول الزّمخشريَّ رحمه الله في بيان لذَّة طلب العلم، وأنّها لا تقوم لها لذَّات الدّنيا جميعها:
سَهَري لتنقيحِ العُلومِ ألذُّ لي *** مِن وَصلِ غانيةٍ وطِيبِ عِناقِ
وتَمايُلي طَرَبًا لحلِّ عَويصَةٍ *** في الدَّرسِ أشهى مِن مُدامَةِ ساقِ
وصَريرُ أقلامي على صَفَحاتِها *** أحلى مِنَ الدَّوكاءِ والعُشَّاقِ
وألَذُّ مِن نَقرِ الفَتاةِ لدُفِّها *** نَقْري لأُلقي الرَّملَ عن أوراقي
أأَبيتُ سَهرانَ الدُّجا وتَبيتُه *** كسَلاً، وتَبغي بعدَ ذاكَ لَحاقي ؟
ويقول العقَّاد رحمه الله:" أحبُّ الكتابَ، لا لأنَّني زاهدٌ في الحياةِ، ولكن لأنَّ حياةً واحدةً لا تكفيني ".
ورحم الله القائل:
مَا تَطَعَّمْتُ لَذَّةَ الْعَيْـشِ، حَتَّـى *** صِرْتُ لِلْبَيْتِ وَالْكِتَابِ جَلِيسَا
لَيْسَ شَيءٌ عِنْدِي أَعَزَّ مِنَ العِلْـ *** ـمِ فَمَا أَبَتَغِي سِـوَاهُ أَنِيـسَا
ويقول الدّكتور عبد الكريم بكَّار:" ما الفرق بين المتعلِّم والأمّي إذا كانا كلاهما لا يقرآن كتابًا ؟!".