يقصد بثبات الأخلاق الإسلامية إن الفضائل الأساسية للمجتمع من صدق ووفاء
وأمانة وعفة وإيثار من الفضائل الاجتماعية المرتبطة بنظام الشريعة العامة
كالتسمية عند الطعام وإفشاء السلام وتحريم الخلوة بالأجنبية ، كلها أمور لا
يستغني عنها مجتمع كريم ، مهما تطورت الحياة ، وتقدم العلم بل تظل قيما
فاضلة ثابتة .
إن الأخلاق في الإسلام لا تتغير ولا تتطور تبعا للظروف الاجتماعية والأحوال
الاقتصادية ، بل هي حواجز متينة ضد الفوضى والظلم والشر ، كما قال الله
تعالى : ((تلك حدود الله فلا تعدوها ))
أما مبررات خاصية الثبات فتتمثل في الأمور التالية :
1- لأن الفطرة البشرية ثابتة في عمر الإنسانية يرثها الأحفاد عن الأجداد
((كل مولود يولد على الفطرة )) فالخلق فطرة وكذلك القيم الاجتماعية ثابتة .
2- إن الأخلاق الاجتماعية نابعة عن الدين ، وتصلح لجميع الناس ، وتفترض
الخير المطلق ، لأن شارعها هو الله سبحانه وتعالى ، الذي راعى فيها الخير
العام قال تعالى : (( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ))
3- إن المنهج الإسلامي يقوم أساسا على عناصر ثابتة مرنة قادرة على استيعاب
تغيرات الحياة بأزمانها المرتبطة بالإنسان نفسه ، وبالحدود والضوابط التي
لا سبيل إلى تجاوزها وفي مقدمتها قاعدة الالتزام الأساسية التي تقيم
للإسلام أصوله الأخلاقية ومن هذه الأصول ثبات القيم الأخلاقية لارتباطها
بالإنسان وفطرته البشرية
آثـار ثبـات الأخلاق :
يترتب على خاصية الثبات في الأخلاق الإسلامية الآثار والمزايا التالية :
- تخليص المجتمعات من ظاهرة القلق والإضرابات التي تسودها، وتمكين الأواصر
الإنسانية بالود والرحمة بينهما ، خلافا للمجتمعات التي تتبدل فيها القيم
الاجتماعية بحسب التغيرات الاقتصادية ، حيث نجدها تعيش في قلق واضطراب .
2- التفريق بين الأخلاق والتقاليد ، فالأخلاق ثابتة لأنها جزء من الدين
الموصى به ، وهي بذلك كيان متكامل رباني المصدر ، إنساني الهدف . أما
التقاليد فمن طبيعتها أن تتغير كلما تغيرت مبررات وجودها ، ولكن ليس
بالإمكان تغير الأخلاق ، لأنها تقوم على أسس ثابتة كالحق والعدل والخير .
3- إن عامل الثبات في الأخلاق يبعث الطمأنينة في حياة الفرد ، وفي حياة
المجتمع . والثبات على الأخلاق مطلوب لأن الأمور بخواتيمها وبدون الاستقامة
والثبات على الحق تفوت الثمرة ، ولا يصل المسلم إلى الغاية
قيم خلقية في الإسلام :
1- العدل : أقام الإسلام المجتمع على دعائم قوية ثابتة ، ومنها : العدل بين
الناس على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم . والعدل صفة خلقية كريمة تعني التزام
الحق والإنصاف في كل أمر من أمور الحياة ، والبعد عن الظلم والبغي والعدوان
والعدل في الإسلام هو مما يكمل أخلاق المسلم لما فيه من اعتدال واستقامة
وحب للحق وهو كذلك صفة خلقية محمودة تدل على شهامة ومروءة من يتحلى بها
وعلى كرامته واستقامته ، ورحمته وصفاء قلبه ، قال تعالى : (( إن الله يأمر
بالعدل والإحسان )) وقال تعالى : ((عن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانة إلى
أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) وقد ورد في الحديث الشريف
قوله –صلى الله عليه وسلم- : ( تعدل بين اثنين صدقة ) والإسلام يربأ
بالمسلم عن الوقوع في أي لون من ألوان الظلم ، فالظالم مطرود من رحمة الله ،
ولقد أوعد الله سبحانه وتعالى الظالمين بأشد العقوبات . قال تعالى : ((
ألا لعنة الله على الظالمين )) وقال تعالى : (( ولا تحسبن الله غافلا عما
يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار )) كما تضمنت السنة
النبوية الشريفة مجموعة من الأحاديث التي تقر العدل وتحرم الظلم منها :
-قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )
-وروى أبو ذر –رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن
الله تبارك وتعالى أنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته
بينكم محرما فلا تظالموا )
ومن أجل إزالة الظلم وتوطيد العدل الكامل بين الناس ، قيد الله سبحانه
وتعالى حرية بني البشر ببعض القيود وهي الحدود الشرعية التي جعلها واجبة
التنفيذ . قال تعالى : (( تلك حدود الله فلا تعتدوها ، ومن يتعد حدود الله
فأولئك هم الظالمون ))
وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم مضمون هذه الآية ، وذلك لاستتاب
العدل ، كما ثبت في المرأة المخزومية القرشية التي سرقت ، وقرر رسول الله
صلى الله عليه وسلم تنفيذ الحد عليها ، فعظم ذلك على رجال من قريش ، فطلبوا
من أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فلماا تحدث أسامة إليه صلى الله عليه وسلم في أمرها ، غضب صلى الله
عليه وسلم وقال لأسامة مستنكراً : ( أتشفع في حد من حدود الله ، إنما أهلك
الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم
الضعيف أقاموا عليه الحد ) ثم ختم حديثه بقوله صلى الله عليه وسلم ( وأيم
الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطع محمد يدها ) وقد أعلن الإسلام مبدأ
العدل في العقيدة والشريعة والأسرة والعهود والقضاء وكل شئون الحياة . ومن
هنا صار العدل التزاما للمسلم في كل ميادين حياته الروحية والمادية ،
ومناطا للثواب على صالح الأعمال ، فالعدل الحقيقي لا يكتمل بعيدا عن شريعة
الله ، لأن شريعة الله تعالى هي العدل وبناء على هذا فقد حذر النبي صلى
الله عليه وسلم –كل مسلم يحتكم إلى قاضي وهو يعلم أنه ظالم لا مظلوم فإن
جزاءه النار .
ومن مجالات العدل في الإسلام ، العدل مع الأهل ، وهو أن يحسن المسلم
معاملات زوجته وأولاده ، ويساوى بينهم ، في المعاملة والعطية ، ولا يفضل
بعضهم على بعض ، فلقد جاء في الحديث أن صحابياً جاء إلىرسول الله -صلى الله
عليه وسلم – ليشهد على إعطائه ابنه بستانا ، فقال له رسول الله –صلى الله
عليه وسلم !!أأعطيت كل أولادك مثله ؟ قال الصحابي : لا. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم فإني لا أشهد على ظلم
وأخيرا فلنعلم أن في توطيد العدل ومحاربة الظلم والحيلولة دون وقوعه إقرار
للأمن وتحقيق للمساواة بين أفراد المجتمع ، والأمر الذي يمكن لكل فرد
الوصول إلى حقه دون مشقة وعناء ، وإذا فقد العدل أكل الناس بعضهم حق بعض ،
وسادت الفتن ، وكثرت الجرائم والمنكرات وأصبح كل فرد من أفراد المجتمع عرضة
لاعتداء الأشرار ، وضعاف النفوس ، فتفقد الحياة بهجتها وجمالها
2- الحـياء :
الحياء خلق نبيل يحول بين من يتمتع به وبين فعل المحرمات وأتيان المنكرات
،ويصونه من الوقوع في الأوزار والآثام وهو كذلك الامتناع عن فعل كل ما
يستقبحه العقل ولا يقبله الذوق السليم ، والكف عن كل مالا يرضى به الخالق
والمخلوق فإذا تحلى المسلم بهذا الخلق ، صحت سريرته وعلانيته ، وعامل الخلق
بما يرضاه مولاه ، وكذلك فإن هذا المسلم الحيي لا يقبل إلا الحلال من كل
شيء وفي المطعم ، والمشرب ، والملبس وغير ذلك كما يعد الحياء دليلا صادقا
على مقدار ما يتمتع به المرء من أدب وإيمان ، وقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ( الحياء من الإيمان ) ولقد حثت الشريعة الإسلامية
المسلمين على التحلي بفضيلة الحياء وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا
الخلق الشريف هو أبرز ما يتميز به الإسلام من فضائل فقال عليه الصلاة
والسلام : ( إن لكل دين خلقا ، وخلق الإسلام الحياء ) وإذا استحكم خلق
الحياء في نفس المسلم ، صده عن كل قبيح وقاده إلى كل أمر حسن طيب ، والحياء
لا يأتي إلا بخير ، أما إذا ضعف هذا الخلق فلن يحل محله إلا السفه
والوقاحة والفحش ، ويجد الإنسان نفسه أمام أبواب مفتوحة من السوء والمنكر
فينزلق إليها لذا قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التمسك بخلق الحياء ،
فقد قال الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه- واصفا رسول الله (
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى
شيئا يكرهه عرفناه في وجهه ) وإذا كان الحياء من الناس حسنا ، فإن الأحسن
منه كثيرا أن يكون الحياء من الله تعالى لأنه يمنع الإنسان من العاصي دائما
، وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه : ( استحيوا من
الله عز وجل حق الحياء ) فقالوا : يا رسول الله إنا لنستحي من الله والحمد
لله ، قال : ( ليس كذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء ، أن تحفظ الرأس
وما وعى ، والبطن وما حوى ، وتذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة
الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حق الحياء ) وقد نقل عن عثمان بن
عفان رضي الله عنه قوله : ( إني لأغتسل في البيت المظلم فأنطوي حياء من
الله عز وجل )
3- الحـلم :
الحلم هو ضبط النفس عند الغضب ، والصبر على الأذى ، من غير ضعف ولا عجز
ابتغاء وجه الله تعالى وتتفاوت قدرات الناس في ضبط النفس ، والصبر على
الأذى ،فمنهم من يكون سريع الانفعال ويقابل الأذى دون النظر في العواقب ،
ومنهم من يتمالك نفسه ، ويكبح جماح غضبه ، ويتحلى بالصبر والحلم ويتلمس
الأعذار والمبررات لمن أساء إليه ، وهذا هو الرجل الحليم وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه رضوان الله عليهم بالتحلي بالحلم في
تعاملهم ، ويحثهم عليه بنفس القدر الذي يحثهم على طلب العلم وكان مع ما
أعطاه الله من خلق عظيم وصفات حميدة يدعو الله بأن يجعل الحلم زينة له
فيقول : ( اللهم أغنني بالعلم، وزيني بالحلم ، وأكرمني بالتقوى ، وجملني
بالعافية ) كما يرفع الله تعالى منزلة الرجل الحليم ، فإنه يناصره ويقف إلى
جواره أمام من يعاديه ، فقد روي أن رجلا جاء إلى الرسول صلى الله عليه
وسلم فقال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم
ويسيئون إلي ، ويجهلون علي ، وأحلم عنهم ، فقال له الرسول صلى الله عليه
وسلم : (إن كان كما قلت فكأنما تسفهم المل ، ولا يزال معك من الله ظهير ما
دمت على ذلك ) ويعد الحلم وسيلة إلى تبوء المراكز الهامة في المجتمع ،
وكانت العرب تقول في أمثالها : (من حلم ساد) ومن هؤلاء الذين تزعموا
أقوامهم بسبب حلمهم عرابة بن أوس ، والأحنف بن قيس ، وروي أن معاوية بن أبي
سفيان قال لعرابة بن أوس : بم سدت قومك يا عرابة ؟ فقال عرابة : يا أمير
المؤمنين كنت أحلم عند جاهلهم ، وأعطي سائلهم ، وأسعى في حوائجهم ، فمن فعل
منهم فعلي فهو مثلي ، ومن جاوزني فهو أفضل مني ، ومن قصر عني فأنا خير منه
وإن الحلم فضيلة تقع بين رذيلتين متباعدتين ، فمن وراء يمين الحلم يأتي
التباطؤ والكسل ، والتواني والإهمال ، وتتبدل الطبع عند مثيرات الغضب ، ومن
وراء يسار الحلم يأتي التسرع في الأمور واستعجال الأشياء قبل أوانها ،
والذي جعل الحلم فضيلة خلقية هو اعتداله ، ومسايرته لمقتضى العقل السليم ،
والآثار النافعة المفيدة الخيرة التي تترتب عليه ولقد ضرب رسول الله-صلى
الله عليه وسلم- أروع المثل للمسلمين في الحلم فقد روى البخاري عن أبي
هريرة قال : بال أعربي في المسجد ، فقام الناس ليقعوا فيه ، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : (دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء ، فإنما بعثتم
مسيرين ، ولم تبعثوا معسرين ) فقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا
أصحابه ، كيف يكون الحلم بالجاهلين وكيف يكون الرفق بهم . ومن حلم الرسول
صلى الله عليه وسلم عدم دعائه على الذين آذوه من قومه ، وقد كان باستطاعته
أن يدعو عليهم ، فيهلكهم الله ، ولحلمه بهم غاية يهدف إليها فهو يرحمهم
لعلهم بعد مدة يؤمنون فينجون من عذاب النار ، فيحلم بهم رجاء إصلاحهم روى
البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء صلوات الله عليهم ، ضربه قومه فأدموه
، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : (اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )
والغضب هو مفتاح الشر ،فالشخص الذي يغضب سريعا ، كثيرا ما تصدر عنه تصرفات
خاطئة ، لذا روي أن أبا الدرداء قال : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني
الجنة ، قال رسول الله :صلى الله عليه وسلم ( لا تغضب ولك الجنة ) وقد مدح
عليه الصلاة والسلام أشبح عبد القيس فقال : (إنك فيك خصلتين يحبهما الله ،
الحلم والأناة ) ومن أن عمر بن عبد العزيز دخل المسجد في أحد الليالي ،
وكان مظلما لا نور فيه فعثر برجل نائم ، فرفع الرجل رأسه إليه وقال : أ
مجنون أنت ؟ فقال عمر بن عبد العزيز : لا ، فهم الشرطي الذي كان يصحبه بضرب
الرجل ، فقال له عمر : (لا تفعل إنما سألني أ مجنون أنا ؟ ، فقلت لا )
وكما رغب الإسلام بالحلم وحث عليه ، حذر من الأخلاق المنافقية له ، وعمل
على تربية المسلمين تربية عملية تأخذ بأيديهم حتى يكونوا حلماء .
وإن الحلم لفضيلة حيوية للمسلمين ، فهو يصون علاقاته مع أهله ،وجيرانه،
وزملائه، وشركائه،وكل من يتعامل معه ، وكلما زادت سلطاته وقدراته ونفوذه ،
كان حلمه أنفع له ولمن يحكم .